الخميس, 21 أغسطس, 2025

هل يخشى الخليج تحول إسرائيل من داوود لجالوت؟

نُشرت هذه المقالة باللغة الإنجليزية على موقع معهد الشرق الأوسط


في الوقت الذي تدفع فيه إدارة ترامب لتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية في الشرق الأوسط وحتى إلى وسط آسيا والقوقاز فإنها تغفل عن تحول دراماتيكي في تقييم المخاطر في العالمين العربي والإسلامي. ففي حين أن إسرائيل كانت تقدم نفسها في السابق كداوود صغير الحجم الذي يجابه جالوت العالم العربي بأسره فإن تلك الأدوار اليوم قد انقلبت وأصبحت إسرائيل التي تمارس قوتها العسكرية دون أي رادع أو رقيب بدعم عسكري أمريكي لم تعد قوة إقليمية فقط بل قوة تسعى للهيمنة في الإقليم. وبالنسبة لدول الخليج فإن هذا التحول يمثل معضلة: هل يمكن أن يصبح جالوت شريكا في السلام؟

الحملة العسكرية التي شنتها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، والتي امتدت من غزة إلى لبنان فسوريا فاليمن وبلغت ذروتها في هجوم إسرائيل على إيران، أدى إلى نظرة لدى دول الخليج أن إسرائيل لم تعد تسعى فقط للردع فقط بل أضحت تسعى للهيمنة. ومن وجهة نظرهم فإن إسرائيل تغيرت من كونها دولة تسعى للحفاظ على الوضع القائم في الشرق الأوسط إلى استخدام قوتها العسكرية لتغيير النظام الإقليمي. وإذا كان يعتقد أن الاتفاقيات الإبراهيمية تمثل تحالفا بين قوى تسعى للحفاظ على الوضع الراهن ضد محور المقاومة فإن عاملا رئيسيا في المعادلة قد تغير. فالتهديد الإيراني تراجع في حين أصبحت إسرائيل تحديا جديدا للاستقرار الإقليمية ما يثير أسئلة جدية حول قدرة الاتفاق الإبراهيمي على تحقيق الاستقرار.

إن تصرفات الحكومية الإسرائيلية بما في ذلك قرار الكنيست في يوليو 2024 والذي يرفض إقامة دولة فلسطينية في المستقبل إضافة إلى رفض إسرائيل الدعوة الفرنسية-السعودية في مؤتمر الأمم المتحدة لتحقيق حل الدولتين يؤكد أن إسرائيل بدأت تعتنق رؤية "قصوية" لا تقدم أي تنازلات. فمع سقوط أكثر من 60 ألف قتيل فلسطيني منذ بدأ الحرب في غزة، ومع تجنب دول الخليج انتشارا نوويا بسبب هجوم إسرائيل على مفاعلات إيران أثناء حرب الإثني عشر يوما، فإن هناك تصور ينمو أن إسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ليس فقط دفاعا عن نفسها ولكن لتنفيذ ما تراه تغييرا استراتيجيا لشكل المنطقة.

إن ذلك التحول في لم يقتصر على أرض المعركة، فقدرة إسرائيل على تحدي الضغوط الدولية سواء من الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة دون أن يؤدي ذلك لأي تبعات عليها ما يشير لتغير سياسي أكثر عمقا. ويرى المراقبون أن حتى واشنطن لم تستطع أن تجبر إسرائيل على انهاء عدوانها في غزة حتى بثمن الافراج عن الرهائن كما أنها لم تستطع أن تمنع إسرائيل من الهجوم على إيران في يونيو 2025 والذي شنته إسرائيل على إيران قبل أيام من انعقاد جولة مفاوضات أكدها المبعوث الأمريكي. ولم تستطع الولايات المتحدة من وقف التصعيد إلا بهجوم على المفاعلات النووية الإيرانية. إن تلك العوامل المجتمع ستؤدي إلى تفتيت المفاهيم الراسخ حول قدرة الردع الأمريكية وضبط النفس الإسرائيلي.

القوة أم العهود

إن تلك العوامل ستدفع دول الخليج لإعادة تقييم الاتفاق الإبراهيمي. إن الاتفاقيات التي بدأت كإطار إقليمي لدعم السلام والاستقرار، تواجه اليوم خطر أن تكون وسيلة لشرعنة الهيمنة الإسرائيلية. إن ذلك أحد الجوانب التي تقلق المملكة العربية السعودية والتي دعمت الاتفاق الإبراهيمي عبر فتح أجوائها لحركة الطائرات الإسرائيلية. ولكن الرياض اليوم تصر على أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد الذي سيؤدي إلى التطبيع، وهو أمر ترفضه تل أبيب.

في ذات الوقت فإن الجهود الأمريكية لضم دول ذات أغلبية مسلمة مثل أذربيجان وكازخستان للاتفاق الإبراهيمي قد يكون هدفها إبراز قيادة الولايات المتحدة ودعم الاستقطاب ضد إيران وروسيا أكثر منها تحقيق سلام إقليمي كما هدفت الاتفاقيات الأصلية. إن علاقات أذربيجان وكازخستان الدبلوماسية مع إسرائيل امتدت لعقود ولكن ذلك لم يحمها من ردة فعل شعبية واسعة، ففي أذربيجان فإن المظاهرات أثناء حرب غزة توضح حدود اتفاقيات التطبيع في ظل غياب العدالة. إن الدعم لحقوق الشعب الفلسطيني أصبح أكثر انتشارا عما كان عليه في 2020 بسبب حرب غزة.

إن سياسة "يد إسرائيل الطولى" والتي بموجبها تشن هجمات استباقية ضد أعدائها في مسارح عمليات مختلفة وممتدة جغرافيا تثير قلق دول الخليج. فتلك الهجمات لا ينظر لها على أنها دفاعية ولكنها جزء من استراتيجية تهدف إلى "تفتيت" المنطقة. ففي إيران لم تقتصر الهجمات على البنية التحتية العسكرية بل حتى على السجون ومعسكرات القوات غير النظامية والتي كانت جزءا من محاولة لإثارة الشغب في مناطق الأقليات مثل خوزستان وبلوشستان ومناطق الأكراد. وقد ظهر نفس النمط من الهجمات في سوريا حيث بررت عملياتها في مناطق الدروز تحت راية "حماية الأقليات" وهي سياسة في حال أصبحت أمرا مقبولا فإن قد تطال دول أخرى في المنطقة.

إن تلك المخاوف بأن إسرائيل التي أصبحت جالوت المنطقة سيثير أسئلة صعبة. هل يجب على دول الخليج التراجع عن تلك الأطر التي تمكن إسرائيل من ذلك النمط من السلوك؟ أم أنهم يحتاجون إلى إعادة تشكيلها لتؤكد الأولويات في المنطقة: الدبلوماسية، وخفض التصعيد وشمولية التعاون.

لقد سعت دول أخرى للحفاظ على علاقات مع الجميع بما في ذلك الإبقاء على قنوات مع إسرائيل وتطوير العلاقات مع إيران الاستثمار في استقرار العراق وسوريا وحتى فتح قنوات حوار مع الحوثيين مع التركيز على بناء مقومات الدولة الوطنية والهدف هو تحقيق استقرار إقليمي مبني على التوازن لا الهيمنة، وهو توازن تعرض لهزة أثناء حرب الاثني عشر يوما والتي هاجمت فيها إسرائيل مفاعلات نووية مهددة دول الخليج بانتشار نووي إضافة لضربة إيران الانتقامية ضد الولايات المتحدة في قاعدة العديد. إن جميع ذلك دفع دول الخليج لاعادة النظر فيما تعنيه الضمانات الأمريكية لاسيما في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة على ضبط السلوك العسكري الإسرائيلي في المنطقة والذي قد يضر بأمنهم.

في المقابل فإن السلوك الإيراني يشير لتغير في  الاتجاه الآخر. فمنذ حرب الإثني عشر يوما فقد قامت إيران بإعادة تشكيل مجلس الدفاع والذي يقوده الرئيس مسعود بزشكيان ووسطي مثل علي لاريجاني. كما أن رسائل إسرائيل بعد الحرب قدمت الدبلوماسية بما في ذلك التوجه لباكستان ودول مجموعة بريكس كما أنه طوال الحرب لم تستخدم القيادات الإيراني عبارات محو إسرائيل عن الخريطة أو الموت لليهود. إن تعامل إيران اليوم أصبح أقرب لداوود منه لجالوت الذي كانت عليه إيران.

الواقعية تتطلب صانعي السلام

في ظل كل ذلك فإن دول الخليج اليوم قد تحتاج إلى إعادة النظر في الكيفية التي ستبدوا عليها دول المنطقة. فالاتفاقيات الإبراهيمية يصعب توسيعها دون أن يكون هناك تغيرا في النهج الإسرائيلي، والسلام لن يتحقق بالهيمنة من قوة عظمى ولكن بالتعاون بين أقران، وذلك يتطلب أن تتعامل إسرائيل كأحد أفراد المنطقة وليس كقوة محتلة.

إن حاجة دول الخليج لبناء سلام مستدام يتطلب أن يتم التأكيد على المبادئ التي جاء بها الاتفاق الإبراهيمي: الاستثمار في مقومات الدولة، العدالة والاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات. إن ذلك تقديم ذلك الإطار التعاون والذي يتضمن كلا من إيران وإسرائيل، وفق مبادئ عدم الاعتداء والتعاون قد يمهد الطريق للمستقبل.

ففي عالم لا يعترف بالقطبية فإن وجود منطقة لا يوجد فيها جالوت لا يمثل يوتوبيا مثالية ولكنها حاجة استراتيجية. إن الاستقرار لن يأتي فقط بغياب القوى المهيمنة ففي ظل غياب توازن في القوى فإن الفراغ سيدعو قوى ميهمنة من الخارج سيتنافسون على السيطرة في المنطقة ويخلقون عدم استقرار جديد. إن التحدي لن يكمن في التخلص من القوى الكبرى ولكن في حوكمتها عبر بناء نظام إقليمي يرتكز على السيادة، والندية والشراكة. 

محمد عبد الرحمن باهرون

محمد عبد الرحمن باهرون

المدير العام

المزيد

مجالات الخبرة

  • جيو-استراتيجية
  • السمعة والقوة الناعمة
  • السياسة العامة والعلاقات الدولية

التعليم

  • حاصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة تكساس التقنية عام 1995.
  • تخصص اللغة الإنجليزية من جامعة الكويت عام 1987

السيرة الشخصية

 يعمل حاليا مديرا لمركز دبي لبحوث السياسات العامة (بحوث) وقد شارك في تأسيس مركز "بحوث" في عام 2002 في دبي، وهو مركز بحثي يركز على السياسات العامة والشؤون الجيوستراتيجية والعالمية ودراسات الرأي العام.

عمل نائبا للمدير في برنامج وطني المجتمعي لتعزيز الهوية الوطنية وممارسات المواطنة الصالحة منذ تأسيسه في 2005.

شارك كعضو مؤسس في مجلس إدارة "معهد بوصلة" في بروكسل الذي يهتم بالعلاقات الخليجية الأوروبية.

عمل كمحرر لمجلة العربي ومحررا في صحيفة الاتحاد، وسكرتير تحرير مجلة الدفاع الخليجي وعمل في شؤون الاتصال الاستراتيجي في المؤسسة العامة للمعارض في أبوظبي.

 مهتم بالربط بين السياسات العامة وبين التطورات السياسية الدولية والإقليمية والتأثير المتبادل بينهما.