الثلاثاء, 23 أبريل, 2024

التكامل الاستراتيجي الوطني

إن المكانة الرفيعة التي احتلتها دولة الإمارات العربية المتحدة إقليميا ودوليا لم تأت من فراغ، وإنما جاءت نتاجا لجهد مبذول ومشهود من قبل القيادة الرشيدة، وقامت على أكتاف وسواعد الكوادر الوطنية التي اكتسبت مهارات فنية وإدارية عبر التأهيل الأكاديمي وبرامج التدريب المستمرة لأربع وأربعين عاما منذ تأسيس الدولة. إن هذه المكانة قد أضحت واقعا معاشا شهد له العالم بأسره ووثقته المؤسسات والمراكز والمنتديات العالمية ذات الصلة، والمشهود لها بالمصداقية كذلك، ولا تنكره إلا عين مصابة بالحول السياسي


لقد أوضحت تلك المؤسسات المكانة الرائدة التي تحتلها الدولة في وقتنا الراهن على المستويين الإقليمي والدولي. إن أكثر ما يدلل على تلك المكانة هو اختيارها، من بين دول عديدة، لاستضافة حدث مهم على مستوى العالم ألا وهو إكسبو 2020. كما أنه ووفقا لمؤشرات قياس تتصف بالعلمية والمصداقية، فقد كان أحدث نتائج تلك المؤشرات هو حصول دولة الإمارات على المركز الأول عالمياً في مؤشر إدلمان للثقة 2014، حيث قفزت من المرتبة السادسة عالمياً إلى المركز الأول، كما احتلت الإمارات المركز الأول عالمياً في قائمة الدول الصاعدة على مؤشر الثقة العام. واحتلت الدولة المركز الأول عالمياً في مؤشر الثقة بالحكومة، حيث بلغت نسبة الثقة 88%، كما احتلت المركز الأول عالمياً أيضاً في مؤشر الثقة بمتانة الاقتصاد بنسبة 82%، حسب المؤشر السنوي الذي تصدره مؤسسة إدلمان، ومقرها نيويورك. وقد تبوأت الإمارات المرتبة التاسعة عشرة عالمياً في مؤشر تقرير التنافسية العالمي 2013- 2014 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. وحصلت الإمارات على المرتبة 23 عالمياً والأولى عربياً في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية لعام 2014. كما صنف تقرير المسح الثاني للأمم المتحدة لمؤشرات السعادة والرضا بين شعوب العالم لعام 2013، دولة الإمارات في المركز الأول عربياً والرابع عشر عالمياً التي حققت السعادة والرضا لمواطنيها. وحافظت الإمارات للعام الثامن على التوالي على وجودها في مرحلة "الاقتصادات القائمة على الإبداع والابتكار"، التي تعتبر أكثر مراحل تطور الاقتصادات العالمية بناءً على منهجية المنتدى الاقتصادي العالمي.

وعزت مؤسسة أدلمان تصنيفها الإيجابي لمستويات الثقة في الإمارات إلى الخطط والاستراتيجيات التي أطلقتها الحكومة، خصوصاً في مجالات عدة مثل الاقتصاد والصحة والتعليم، بالإضافة إلى ضخها استثمارات كبيرة في مجال البنية التحتية، مما أسهم في زيادة الثقة بأدائها خلال هذه الفترة.

إن هذه المكانة الرفيعة لم تصل إليها الدولة إلا بعد الجهود الحثيثة التي تم بذلها على كافة المستويات وبالأخص على مستويي التكامل الاستراتيجي ووضوح رؤية الدولة. وسيكون باقي المقال في شكل إجابة عن سؤال في غاية الأهمية تشكل الإجابة عليه توضيحا لأهمية العلاقة بين التكامل الاستراتيجي ووضوح رؤية الدولة، والسؤال هو: كيف يمكن للدولة المحافظة على تلك المكانة المتقدمة والمرموقة التي احتلتها وفقا للمؤشرات العالمية ذات الصبغة العلمية والموثوق بها، وما هي متطلبات استمرارها في ذلك الموقع؟

الإجابة المباشرة على هذا التساؤل هي التكامل الإستراتيجي فيما بين إمارات الدولة السبع في جميع المجالات، ولكن بالأخص في المجال الاقتصادي والأنشطة التي تتعلق بتنمية الثقافة وتعزيز الهوية الوطنية، بالإضافة الى التكامل الاستراتيجي في محيطها الإقليمي، وبالذات مع دول مجلس التعاون الخليجي..

 المدخل السليم لاستكمال عملية التكامل الاستراتيجي بنجاح هو إتباع منهج التخطيط الاستراتيجي في هذا المسار. ولحسن الحظ، وقبل ستة أعوام من الآن، وبالتحديد في شهر فبراير عام 2010، صاغت الحكومة الاتحادية رؤيتها للعام 2021 والتي تستند على مبدأ المواطن أولاً، وتبنت تلك الرؤية سبعة مبادئ وسبعة ممكنات وسبعة أولويات استراتيجية لتحقق التنمية المتوازنة في كل الإمارات. كما توجد خطط إستراتيجية لكل إمارة بمفردها. وقد ورد في ملخص رؤية الإمارات 2021 "أنه في ظل اتحاد قوي وآمن، يخطو الإماراتيون بثقة وطموح، متسلحين بالمعرفة والإبداع لبناء اقتصاد تنافسي منيع في مجتمع متلاحم متمسك بهويته، ينعم بأفضل مستويات العيش في بيئة معطاءة مستدامة.

إن أول متطلبات التكامل الإستراتيجي الناجح بين إمارات الدولة السبع هو التنسيق الكامل فيما بينها في جميع المجالات، وهذا يعنى تنسيق السياسات في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. بمعنى آخر يتطلب التكامل الاستراتيجي تحديد أهداف استراتيجية في القطاعات الحيوية التي تقود قاطرة التنمية المستدامة الى الأمام كقطاعات الخدمات المالية والتجارة والسياحة والصناعة التحويلية والبنية التحتية، على أن يقوم هذا التنسيق على مبدأ الميزة التنافسية لكل إمارة في المجال المعين الذي تتفوق فيه على جاراتها. وعلى الرغم من وجود وزارات اتحادية للتعليم والصحة والاقتصاد إلا أنه توجد دوائر وهيئات محلية يتعلق نشاطها الرئيسي بذات القطاعات مما يستوجب تنسيقا ضروريا فيما بين الجهات الاتحادية والمحلية لتحقيق التناغم المفضي الى بلوغ الغايات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تم تحديدها.

إن الأجندة الوطنية التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في الرابع عشر من شهر يناير 2014م لدولة الإمارات العربية المتحدة لسبع سنوات حتى عام 2021م، والتي تضمنت أهدافا ومشروعات في قطاعات التعليم والصحة والاقتصاد والأمن والإسكان والبنية التحتية والخدمات الحكومية تشكل، كما أعتقد، تحديا رئيسيا أمام الحكومة الاتحادية وكذلك أمام الحكومات المحلية، حيث إن بلوغ غاياتها وأهدافها يتوقف بالأساس على مدى التكامل الإستراتيجي بين إمارات الدولة، والتنسيق الفعال فيما بينها وبين الحكومة الاتحادية.

إن العمل على تنفيذ هذه الأجندة وتحقيق أهدافها، وبالتالي تحقيق رؤية الدولة يتطلب التنسيق فيما بين الوزارات والهيئات والمجالس المناط بها تنفيذ هذه المهمة. ليس هذا فحسب، بل إنني أعتقد بأن تنفيذها يتطلب أيضا دورا محوريا لقطاع الأعمال يتوجب عليه أن يلعبه حتى يتم ذلك بالقدر المطلوب من النجاح. ولكيما يلعب قطاع الأعمال الدور المتوقع منه على أكمل وجه فلابد من إشراكه في صياغة الخطط والبرامج واقتراح السياسات والآليات التي سوف تساعد في تنفيذ الأجندة الوطنية وتحقيق رؤية الدولة.

إن إشراك قطاع الأعمال في هذه المهمة يتطلب وجود آلية مناسبة تضمن وجوده الفاعل في جميع مراحل صياغة وإعداد تلك الخطط والبرامج، والاستماع الى رأيه ومقترحاته والتعامل معها بالشكل الملائم حتى يمكن ضمان وفائه بكل العهود التي سيقطعها على نفسه أثناء فترة إعدادها، وبذل كل ما يملك من موارد من أجل ذلك الهدف، وكذلك حتى يتسنى له التمتع بمردودها الإيجابي على اقتصاد ومجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة.

ومن اجل أن يثمر هذا التشاور لمصلحة كلا الطرفين فلابد لحكومة الإمارات من إيجاد آلية مناسبة لتطوير علاقتها مع قطاع الأعمال على المديين المتوسط والبعيد. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب تجاوز أسلوب لقاءات التشاور التي تفرضها الظروف الطارئة واعتماد تطوير علاقة ثابتة ومستقرة مع قطاع الأعمال قائمة على أسلوب التشاور المستمر، حتى لو تطلب ذلك اتخاذ بعض القرارات بصورة مشتركة في بعض القضايا الهامة. 

بناءاً على ما تقدم، من المقترح " المجلس الأعلى للتخطيط" كآلية مناسبة تجمع فيما بين القطاعين الحكومي والخاص لتنفيذ الأجندة الوطنية وتحقيق روية الدولة 2021

أما على مستوى التكامل الاستراتيجي الإقليمي والذي يتبر ضروريا كذلك لتحقيق رؤية الدولة فإن عالم اليوم يعيش متغيرات عديدة تستوجب إعادة النظر مرة أخرى في مسار الدولة نحو تحقيق اقتصاد المعرفة وصولا الى تحقيق التنمية المستدامة، حيث أصبح من المستحيل أن تحقق دولة ما متطلبات التنمية المستدامة بجهد منفرد دون أن تلجأ إلى التكامل مع غيرها من الدول لتبادل المنافع المشتركة. كما أن عولمة الاقتصاد والتجارة بالإضافة الى المتغيرات العالمية المتلاحقة لا تخلو من بعض المخاطر التي لا تستطيع الدولة بمفردها تحملها

أصبح من المعروف أيضا إن هذه المخاطر تقل كلما كان التعاون هو السائد بين الدول. لذا نجد التوجه الدولي نحو التكامل الإقليمي يتزايد يوما بعد يوم، وأصبحت الدول الكبرى تلوذ بمحيطها الإقليمي وتوسعه، حيث نجد الولايات المتحدة تنشئ منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا)، وتدعو لإنشاء منطقة تجارة حرة للأمريكيتين، وتجعل من المحيط الباسيفيكي امتداداً إقليميا لها من أجل الدخول في تكتل مع بعض الدول الآسيوية وأستراليا. وبدأت أوروبا في تحقيق الحلم الكبير المتمثل في تأسيس الاتحاد الأوروبي على أن يضم كل الدول الأوروبية-شرقها وغربها. ولم يقتصر هذا التوجه المتزايد نحو التكامل الإستراتيجي الإقليمي على هاتين القارتين، بل تعداه ليشمل قارة آسيا وكذلك أخيرا قارة أفريقيا

إن التكامل الاستراتيجي على المستويين الوطني والإقليمي أصبح اليوم وسيلة متفقا عليها باعتبارها الوسيلة الأكثر ضماناً للوصول إلى مستويات متقدمة من التنمية الاقتصادية المستدامة، وتحقيق رفاهية وسعادة الشعوب مهما اختلفت الطرق والوسائل المستخدمة والمعبرة عن هذه الوسيلة. لكنه أصبح من الواضح أيضا أن توفر الإرادة السياسية والمقومات الاقتصادية يظل لهما الدور الحاسم في نجاح وديمومة أي تكامل استراتيجي لتحقيق رؤية الدولة

وبما أن هذان العنصران متوفران في دولة الإمارات العربية المتحدة فإنه لا يخالجني أدني شك في نجاح تحقيق رؤية الإمارات 2021 وبلوغ أهدافها المنشودة بكل جدارة واستحقاق

د.إبراهيم كرسني

د.إبراهيم كرسني

مستشار إقتصادي

المزيد

مجالات الخبرة

  • السياسة العامة
  • قضايا التنمية
  • التخطيط الاقتصادي
  • القدرة التنافسية

تعليم

دكتوراه في الاقتصاد

السيرة الذاتية

تخرج الدكتور إبراهيم كرسني من جامعة الخرطوم حيث حصل على بكالوريوس في الاقتصاد مع مرتبة الشرف ومن ثم الدكتوراه في التنمية الاقتصادية من جامعة ليدز، بإنجلترا. وقد اكتسب خبرة بحثية واسعة في مختلف مجالات الدراسة بدءا من دراسات التنمية والتخطيط الاقتصادي ومشاكل التخلف الاقتصادي إلى إدارة الجودة الشاملة والقدرة التنافسية للدول.

تمتد خبرة الدكتور كرسني العملية على مدى أربعة عقود وتتراوح بين التدريس الجامعي، سواء على المستوى الجامعي أو على مستوى الدراسات العليا، والعمل في المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والحكومات، على سبيل المثال، عمل مستشارا لوزارة الاقتصاد في مسقط بسلطنة عمان ومستشار التنمية الاقتصادية في الدائرة الاقتصادية بدبي، وكذلك في القطاع الخاص مع مركز دبي لبحوث السياسات العامة.

وقد كان أستاذ زائر وباحث في المؤسسات الأكاديمية ذات السمعة الطيبة؛ ومن أبرزها جامعة بيرغن، بالنرويج، والمعهد الاسكندنافي للدراسات الأفريقية، في أوبسالا، بالسويد، وأكاديمية العلوم الهنغارية، بودابست، المجر. كما نشر عددا من الدراسات في المجلات العلمية المتخصصة، وعمل في مجالس تحرير المجلات الأكاديمية في السودان والخارج؛ على سبيل المثال، مجلة استعراض الاقتصاد السياسي الأفريقي، التي تنشر في انكلترا. وقدم أيضا أوراق بحث مختلفة وشارك في عدد كبير من المؤتمرات والحلقات الدراسية وحلقات العمل الدولية ونشر أكثر من ستين مقال في المطبوعات اليومية فضلا عن ورقات بحث إلكترونية تغطي طائفة واسعة من المواضيع والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .

وسائل التواصل الاجتماعي

ikursany@bhuth.ae